تشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية مدا وجزرا بسبب طبيعة الملفات المعقدة بين البلدين، خاصة ما تعلق بالموروث التاريخي الذي يثقل كاهل هذه العلاقات، إذ أن الكثير من القضايا التاريخية التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية (1830/ 1962)، لازالت معلقة إلى اليوم، وتحيي في كل ذكرى "جراح الذاكرة" التي لم تندمل بعد.
رحيل المستعمر القديم قبل نصف قرن لم ينه الجدل حول هذه المرحلة، والتي بقي حملها ثقيلا على العلاقات بين البلدين التي تشهد في كل مرة انتكاسة بسبب ملفات التاريخ.
وقبل أيام، تعالت في الجزائر بمناسبة الاحتفالات بعيد الثورة (1نوفمبر/ تشرين الثاني 1954) أصوات تطالب فرنسا بالاعتذار عن جرائمها خلال الفترة الاستعمارية.
وأكد حزب جبهة التحرير الوطني (الحاكم) في بيان له تم نشره، الإثنين الماضي: "نُصِّرُ على مطلبنا الشرعي على ضرورة اعتراف فرنسا للشعب الجزائري على ما ارتكبه الاستعمار من جرائم في حقه".
وهاجم البيان، الذي اطلعت عليه الأناضول، فرنسا بالقول إن "سجل الاستعمار الملطخ بالدماء والجرائم والممارسات غير الإنسانية ورغم ذلك فإنهم (الفرنسيون) يتحدثون عن محاسن الاستعمار، ويكرمون الحركي (جزائريون عملوا مع الجيش الاستعماري)، ويصفون الثورة والمجاهدين بالإرهاب والإرهابيين".
وصادق البرلمان الفرنسي في 23 فبراير/شباط 2005، على قانون يمجد استعمار بلاده للجزائر، كما اعترف الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند في سبتمر/أيلول 2016، بتخلي بلاده عن الحركى (الجزائريون الذين حاربوا مع فرنسا ضد استقلال بلادهم)، كما شبه أولاند، سلوك الثوار الجزائريين في فترة ثورة التحرير (1954/ 1962) بسلوك "الإرهابيين".
وتعكس لهجة بيان الحزب الحاكم الذي يقوده رئيس البلاد عبد العزيز بوتفليقة، وجود جمود يطبع العلاقات بين البلدين خلال الأشهر الأخيرة بسبب ملفات تاريخية.
ولمح الرئيس الجزائري، في رسالته الأحد الماضي، بالمناسبة إلى رفض بلاده الإشادة بالفترة الاستعمارية من قبل الساسة في باريس، بالقول: "ما أكثر المجازر التي كانت من قبيل الإبادة أو كادت، والتي تخللت الليل الاستعماري (..) وحقائق الاستعمار التي لن يقوى أبدا، أي خطاب يعلو من وراء البحار (فرنسا)، لا على تزييفها ولا على محوها".
ومنذ مطلع العام الجاري تشهد العلاقات بين الجزائر وفرنسا توترا حيث أثارت صورة نشرها رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، برفقة بوتفليقة، خلال زيارته في أبريل/نيسان 2016، إلى الجزائر أزمة بين البلدين، بعد أن أظهرت الرئيس الجزائري وهو يبدو في وضع صحي حرج.
واحتجت السلطات الجزائرية على الصورة ووصفتها بالتصرف "غير اللائق" من رئيس الوزراء الفرنسي، بينما قالت أحزاب ومنظمات جزائرية إن هدفها الإساءة للجزائر.
من جهته رد وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، في مايو/أيار الماضي، على انتقادات للرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، أبدى فيها تخوفا من الأوضاع في الجزائر جراء هبوط أسعار النفط، وقال عن تلك الانتقادات إنها "لا قيمة لها عند الجزائريين".
كما أعلن الرئيس الجزائري، في يوليو/تموز الماضي، أن استرجاع السلطات لممتلكات تركها فرنسيون (يسمون الأقدام السوداء) غادروا البلاد بعد الاستقلال في 1962، كان "أمراً مشروعا"، وذلك في أول ردّ منه على طلبات فرنسية باستعادتها أوالتعويض عنها.
ويطلق اسم الأقدام السوداء على المدنيين الفرنسيين الذين استوطنوا الجزائر خلال فترة الاستعمار، لكنهم غادروها بعد الاستقلال عام 1962 نحو بلادهم "خوفاً من انتقام الجزائريين"، كما يقولون.
كما تفجرت في سبتمبر/ أيلول الماضي قضية جماجم المقاومين الجزائريين في باريس بعد أن كشفت وسائل إعلام فرنسية، أن 500 من الجماجم الموجودة بمتحف "الإنسان" بباريس تم التعرف على هوية أصحابها، من ضمنها 36 جمجمة تعود لقادة في المقاومة الجزائرية، قتلوا وقطعت رؤوسهم من قبل قوات الاستعمار الفرنسي للجزائر، في القرن التاسع عشر، ثم نقلت إلى العاصمة باريس، لدوافع سياسية وأنتروبولوجية (متعلقة بعلم الإنسان).
وتوالت تصريحات رسمية ومن منظمات وأحزاب وصفت ذلك "بالإساءة" للجزائر فيما قال وزير المجاهدين (قدماء المحاربين) الطيب زيتوني، إن سلطات بلاده تجري حاليا مفاوضات مع نظيرتها الفرنسية لاسترجاع هذه الجماجم ودفنها.
من جهته اتهم عبد المجيد شيخي المدير العام لمؤسسة الأرشيف الجزائري، الإثنين الماضي، السلطات الفرنسية بإخفاء الأرشيف المهرب الذي يعود للحقبة الاستعمارية (1830 - 1962) ووضعه في أماكن يُجهل الكثير منها.
وأخذت السلطات الاستعمارية، حسب مؤرخين، فور مغادرتها الجزائر في 1962، أطنانا من الوثائق الخاصة بالفترة الاستعمارية وترفض حتى الآن تسليمها للجزائر بدعوى صعوبة فرزها، ووجود وثائق مصنفة بـ"السرية".
وظلت هذه الملفات وقضايا أخرى "تسمم" العلاقات بين البلدين حيث أنها تشهد انتكاسات متتالية من فترة إلى أخرى رغم محاولات الساسة من البلدين إبعادها عن ثقل التاريخ والحديث عن وجود علاقات جيدة بين الجانبين.
وقال وزير الخارجية الجزائري، خلال لقائه مع نظيره الفرنسي جون مارك إيرولت، الجمعة الماضي، على هامش اجتماع بمرسيليا إن "العلاقات الجزائرية-الفرنسية جيدة للغاية وفي الطريق الصحيح".
فيما قال نظيره الفرنسي: "قررنا التقدم في كل القطاعات بما فيها الأكثر حساسية مثل الدفاع ومسائل الذاكرة (التاريخ) حتى تواصل الشراكة الاستراتيجية والاستثنائية بين البلدين تقدمها".
أما الوزير الطيب زيتوني، فيرى أن هذه العلاقات "تتّجه بعد أكثر من 50 سنة من الاستقلال، نحو فتح فصلٍ جديد قِوامهُ النِدّية والتعاون وتبادل المنافع بما يخدم مصالح وتطلع الأجيال لبناء المستقبل".
غير أنه اشترط مقابل ذلك، خلال حوار مع وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، مؤخرا "اعتراف فرنسا بما ارتكبته خلال الحقبة الاستعمارية في حق الشعب الجزائري، لكي تتعزّز الثّقة أكثر وتتخلص تلك العلاقات من ترسّبات الماضي".
من جانبه يرى السعيد عبادو، الأمين العام لمنظمة المجاهدين الجزائرية (موالية للحكومة) أن تهرب فرنسا من الاعتراف بجرائمها "يجعلنا لا نتفاءل بمستقبل العلاقات بين البلدين"، كما صرح في حوار مع وكالة الأنباء الجزائرية، نشر الإثنين الماضي.
من جهتها تردد المعارضة الجزائرية في تصريحات مختلفة لمسؤوليها منذ سنوات أن السلطة الحاكمة "غير جادة" في الضغط على فرنسا لافتكاك اعتذار رسمي عن الجرائم الاستعمارية وتُخرج المطلب في مناسبات معينة، بدل استغلال أوراق اقتصادية وسياسية لإجبارها على ذلك.
ويرى الصحفي الجزائري المتخصص في الشأن السياسي رابح هوادف، أن "ظلّ التاريخ المشترك سيبقى مهيمنا على العلاقات بين الدولتين خصوصا مع استمرار استفزاز الفرنسيين للشعب الجزائري، برفض الاعتراف والاعتذار عن جرائم المحتل القديم، بكل ما يترتب عن ذلك من مسؤوليات تاريخية، وطنية، أخلاقية وسياسية".
وتابع في حديثه للأناضول: "الحاصل أنّه كثيرا ما تعمد سلطات البلدين إلى الالتفاف على مسألة ألغام الذاكرة، والاستعاضة عنها بحكاية الشراكة الاستراتيجية وتطوير التعاون الاقتصادي، وهذا الواقع أكّدته الزيارات المتعاقبة والمتبادلة لمسؤولي الدولتين، وتكريسهما كل مرة لمبدأ تطبيع العلاقات بعيدا عن النقاط الحمراء في التاريخ والتي لا يمكن بالتأكيد طيها وتجاوزها".
واستبعد هذا الصحفي حدوث اعتذار فرنسي عن جرائم الاستعمار "خصوصا مع استفادة فرنسا من بقاء مصالحها محفوظة، وتكرّس التبعية للمحتل القديم، في مقابل تغييب أي نقاش جوهري بشأن مستقبل العلاقات التي يُفترض أنّها تقوم على أساس الربح المتبادل والندية".