بقلم : أحمد عبده طرابيك
تسود العديد من مناطق العالم الحيوية الكثير من الاضطرابات والحروب وعدم الأستقرار ، الأمر الذي ينعكس بشكل كبير التنمية في أغلب دول العالم ، ومن ثم ينتشر الفقر وتتقشي الأمراض بوتيرة متسارعة ، وترجع كل تلك المشكلات الأمنية والسياسية إلي غياب العدالة ، وازدواجية المعايير التي تطبقها الدول الكبري في تعاملها مع قضايا الدول والشعوب .
تظل صفحات التاريخ ، وذاكرة الأمم شاهدة دائما علي الأحداث الأليمة التي تتعرض لها الشعوب ، ومهما حاول القوي المعتدية من ساندها إخفاء تلك الجرائم ، وضع تلك الأحداث طي النسيان ، تأبي ذاكرة التاريخ أن تغير أو تبدل تلك الصفحات المؤلمة ، وخاصة إذا كانت تلك الأحداث ما زالت آثارها قائمة ، ولم تتبدل الأوضاع وتقديم الجناة للعدالة ، من أجل تهيئة البيئة المناسبة للأجيال الجديدة للتعايش مع بعضها البعض بعيداً عما اقترفه الآباء والأجداد . اتصف الصراع بين أرمينيا وأذربيجان دائما بالوحشية والعدوانية ، فمع بداية عام 1992 بلغ عدد المقاتلين الأرمن في إقليم " قره باغ الجبلية " ستة آلاف مقاتل ضمن قوات الدفاع الذاتي الخاضعة للجنة الدفاع ، وزادت تلك القوات من ترسانتها ومعداتها العسكرية علي حساب القوات السوفيتية التي انسحبت لافساح المجال للأرمن الذين هاجموا المدن والقري ، فاستولوا علي مدينة " خوجالي " ليلة 26 فبراير 1992 بعد ارتكاب جريمة دموية بحق السكان المدنيين ، وشهدت المدينة أبشع جرائم التطهير العرقي ، الأمر الذي جعل الأرمن يعملون علي فتح ممر لعبور السكان والجرحي إلي خارج المدينة بهدف تطهيرها من سكانها الأصليين .
في مساء 25 وفجر 26 فبراير 1992 ، تحركت القوات المسلحة الأرمينية بدعم من الفوج 366 مشاه ميكانيكي تجاه مدينة " خوجالي " وتم محاصرتها ، ومع الساعات الأولي من فجر يوم 26 فبراير تم الهجوم علي القرية وتدميرها علي نطاق واسع ، وارتكبت القوات المسلحة الأرمينية جريمة شكلت أكبر مأساة في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية .
بلغ عدد القتلي 613 شخصاً من سكان القرية الأذربيجانيين ، بينهم 106 إمرأة ، 63 طفلا ، 70 شيخا مسناً ،
وتم القضاء علي ثماني أسر بشكل تام ، وبالإضافة إلي ذلك تم اعتقال 1275 شخصاً من بينهم 150 شخصاً لا يُعرف مصيرهم حتي الآن . وفي أثناء ذلك الهجوم تُرك حوالي ثلاثة آلاف من سكان القرية البالغ تعدادها سبعة آلاف نسمة ، لأربعة أشهر وهم محاصرون ، كان من بينهم عدد كبير من المصابين والمرضي والشيوخ والنساء والأطفال .
اختارت القوات الأرمينية " خوجالي " لتكون مسرحاً لتلك الجريمة باعتبارها تمثل أهمية استراتيجية في قره باغ . فمدينة " خوجالي " تقع وسط إقليم " قره باغ " الجبلية المحتلة ، ولها موقع استراتيجي هام في هذه المنطقة ، وتعد " خوجالي " ثاني أكبر المناطق السكنية للأذربيجانيين بعد مدينة " شوشا " في " قره باغ " الجبلية ، ويعيش بها سبعة آلاف نسمة ، وهي علي بعد اثني عشرة كيلومترات من مدينة " خانكندي " في الجنوب الشرقي من أذربيجان عند سلسلة جبال " قره باغ " ، ومن ثم تتوسط الطرق البرية التي تربط بين أغدام وشوشا من ناحية وعسكران وخانكندي من ناحية أخري ، كما يوجد بها المطار الوحيد بالإقليم ، حيث اعترفت أرمينيا بعد ذلك أن الهدف الأساسي من هجومها علي " خوجالي " هو تدمير وإخلاء طريق " عسكران - خانكندي " المار بها ، والإستيلاء علي المطار الموجود في حوزة الأذربيجانيين .
لقد كان الهجوم علي مدينة " خوجالي " عملا مخططاً ومدبراً تدبيرا محكماً ، حيث حاصر الأرمن المدينة منذ أكتوبر 1991 وذلك مع بداية إعلان استقلال جمهورية أذربيجان عن الاتحاد السوفيتي ، فبعد أن تم قطع كل وسائل المواصلات البرية بينها وبين أذربيجان ، ولم يبقي سوي الطيران كوسيلة وحيدة لربط المدينة بالوطن الأم ، لم يرق ذلك أيضاً للأرمن ، فقاموا باسقاط مروحية فوق مدينة " شوشا " راح ضحيتها 41 شخصاً ، وعلي إثر ذلك الحادث الأليم ، أصبحت " خوجالي " معزولة تماماً عن باقي أجزاء الوطن في أذربيجان ، وعمدت إلي إخلاء المدينة من سكانها ، حتي كانت قمة المأساة والوحشية في مساء الخامس والعشرين من فبراير 1992 .
رغم بشاعة تلك الجريمة وتوثيقها بالأرقام والاحصاءات الرسمية ، ومعرفة المسئولين عنها ، إلا أن أرمينيا تزعم بأنها كانت دفاعاً عن النفس ، الأمر الذي يعطي مؤشراً علي عدم الاعتراف بهذه الجريمة ، وعدم سعي المجتمع الدولي لتقديم الفاعلين إلي العدالة .
سوف تظل مذبحة " خوجالي " رمزاً للتطهير العرقي ، فقد كان الأرمن يسعون إلى إخلاء المدينة وإقليم " قره باغ " بصفة عامة من السكان الأصليين الأذربيجانيين ، في محاولة لتغيير الواقع الديموغرافي على الأرض ، فقد كانت خوجالي بموقعها الجغرافي الهام وسط الإقليم تمثل عقبة أمام تحقيق الأرمن لأهدافهم ، فمدينة " خوجالي " تقع في وسط إقليم " قره باغ الجبلية " الأذربيجانية ، وهي ثاني أهم المدن بعد عاصمة الإقليم " شوشا " من حيث عدد السكان ، وتبعد عشرة كيلو مترات فقط عن مدينة " خانكندي " في الجنوب الشرقي من أذربيجان عند سلسلة جبال " قره باغ " ، كما يوجد بها المطار الوحيد بمنطقة قره باغ الجبلية ، ولذلك كان صمود سكان المدينة يمثل تحديا للأرمن في إخلاء الإقليم من سكانه الأصليين ، والسيطرة على باقي أراضي " قره باغ الجبلية " .
لم تستطع وسائل الإعلام العالمية تجاهل ما حدث في " خوجالي " ليلة السادس والعشرين من فبراير 1992 ، ورغم أن وسائل الإعلام والاتصال في ذلك الوقت لم تكن علي نفس القدر من التقدم والتطور الذي نراه في هذا الوقت ، إلا أن الصحف العالمية ألقت بعضاً من الأضواء علي هذه الجريمة البشعة ، واعتبارها جريمة ليس في حق شعب أذربيجان ، ولكنها في حق الإنسانية كلها ، فقد زار العديد من الصحفيين والمراسلين الأجانب والمحليين مكان الحادث ، وشاهدوا عن قرب ما حدث هناك ، ومازالت شهاداتهم موثقة في أرشيف الصحف والمجلات العالمية .
كما وصفت منظمة حقوق الإنسان الدولية " هيومان رايتس ووتش " جريمة " خوجالي " بأنها أكبر مذبحة في تلك الأزمة ، ولكن حسب القانون الدولي ماذا يمكن توصيف مذبحة " خوجالي " ؟ ، وللإجابة علي ذلك السؤال لابد من الوقوف علي تعريف منظمة الأمم المتحدة للإبادة الجماعية .
تعرف معاهدة لندن الموقعة في 8 أغسطس 1945 بشكل تفصيلي جرائم الحرب الخطرة ، حيث ترتبط تلك الجرائم ارتباطاً وثيقاً بالجرائم ضد الإنسانية ، وعدم المساس بكرامة المدنيين أو المحاربين المستسلمين ، والنشاطات الإجرامية تجاه حياة الإنسان أو الممتلكات أو الكرامة الإنسانية ، ولذلك فإن الإبادة الجماعية هي إحدي الجرائم الدولية التي تخرق القواعد القانونية للتعايش الدولي ، وينطبق ذلك علي جرائم الحرب ، وعلي الجرائم ضد الإنسانية وفقاً للقانون الدولي .
تحاول أرمينيا التمويه علي الجرائم التي ارتكبتها بحق السكان الأذربيجانيين وفي مقدمتها مذبحة " خوجالي " من خلال حملات الدعاية المضللة التي تروج لها ، في محاولة للإفلات من العقاب عن الجرائم التي ارتكبتها أرمينيا بحق أذربيجان وشعبها ، باعتبار أن تقديم مرتكبي الجرائم للعدالة هو أساس تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة وتحقيق المصالحة الشاملة بين أرمينيا وأذربيجان .
جمهورية أذربيجان الشقيقة هي إحدي الجمهوريات الإسلامية الست التي كانت ضمن الاتحاد السوفيتي السابق ، وواحدة من الدول الخمس المطلة علي سواحل بحر قزوين ، وما إن تحررت من قبضة النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991، إلا وتعرضت لعدوان غادر من قبل أرمينيا المجاورة التي احتلت إقليم قره باغ ، الذي يمثل نحو خمس مساحة البلاد ، وارتكبت أرمينيا أبشع الجرائم في حق السكان العزل أصحاب الأرض ، وذلك عندما استخدمت أسلوب القتل والترويع والتهجير من الأرض باتباع سياسة الأرض المحروقة بهدف تغيير الخريطة الديموجرافية لإقليم قره باغ ، بتهجير السكان وإحلال بدلا منهم سكان من أصول أرمينية ، مثلما يفعل الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، بتهجير السكان العرب أصحاب الأرض وتوطين مستوطنين يهودا بدلا منهم لخلق واقع جديد علي الأرض .
يمثل تحقيق العدالة في العالم أهم عوامل العيش في أمن واستقرار ، ونشر ثقافة السلام والتعايش الآمن بين جميع شعوب العالم ن وهذا ما تحتاجه البشرية في هذه الوقت الذي يشهد الكثير من الاضطرابات والمجالاعات ، فتسخير القدرات والامكانات الموجهة للقتال تكفي لحياة سكان العالم في رفاهية وازدهار .